Friday, January 30, 2015

#مصرع_أميرة الفصل الثاني


الثاني

كان اليوم جمعة...
وهي لم تعد عطلة بالنسبة إليَّ مذ غادرت القاهرة، فالعطلة في «بامبوتوس» تكون يومي السبت والأحد، تماماً كأوروبا التي يقلدونها في كل شيء، أوروبا هنا هي الفردوس الذي يرغب الجميع ـ من دون استثناء  ـ في الفرار إليه يوماً ما، حتى أن الأغلبية العظمى من السكان لا تشاهد القناة التلفزيونية الحكومية أو القنوات الخاصة المحلية، وتكتفي بمجموعة من القنوات الأوروبية عبر «وصلة»، كتلك التي يشيع استخدامها في مصر ـ خصوصاً لمحاربة احتكار مباريات الكرة ـ والتي تلبي رغبة ملحة في نفوسهم... رغبة الهروب من الواقع المرير!
دهشتُ عندما سألتُ السكرتيرة ـ يوماً ما ـ عن موعد نشرة الأخبار الرئيسة؛ فهزت كتفيها بأنها لا تعرف، بل لا تهتم، وأضافت أن الجميع يشاهدون أخبار أوروبا.
وعندما تعجبت من اهتمامهم بأخبار بلاد بعيدة، لا تعني لهم شيئاً؛ قالت ببساطة:
نحن نكتوي بنار المعيشة في بلدنا طوال اليوم، أفلا نستحق أن نرتاح بعض الوقت ونتابع أخبار بلاد يحيا فيها الناس بشكل أفضل، وننام ونحن نحلم بأن هروبنا إلى هذه البلاد سيتحقق!
كنت أهتم كثيراً ـ في بداية الأمر ـ بالدخول في مناقشات وجدل، حول ما أعتبره سلبيات واضحة للحياة في «بامبوتوس»، وأملك كماً هائلاً من الانتقادات للمواطنين وللدولة، وأرى أن هناك الكثير يمكن القيام به لتطوير البلاد، لكنْ يوماً بعد يوم؛ ازداد فهمي لدواخل الأمور، وبدأت طموحاتي تخبو بسرعة.
*****
كان اليوم جمعة...
وعلى الرغم من أنه ليس بعطلة؛ إلا أن الصلاة لا ترتبط بالعطلة.
كانت صلاة الجمعة فرصة رائعة لممارسة العمل الدبلوماسي، ففي «أيوندو» أكثر من عشرة مساجد، منها مسجدان كبيران، يؤمهما آلوف المصلين يوم الجمعة، أقدمهما هو المسجد الكبير في «بريكتيري»، والذي يحمل صحنه لوحة مكتوبة بالخط الديواني، أنه أنشئ عام 1913، والثاني مسجد «تشينجا»، أنشئ عام 1996، هدية من المملكة العربية السعودية لمسلمي البلاد، ويطلق عليه اسم المركز الإسلامي في «أيوندو».
وعلى غير المعتاد، قدم المركز صورة نادرة للتعاون العربي، فعلى الرغم من أن تمويله سعودي، ومن ثَمَّ فمديره العام كذلك، إلا أن معظم الدعاة العاملين فيه من بعثة الأزهر الشريف، ومعهم تونسي وجزائري، كما أن هناك سودانياً ومغربياً يعملان بالإدارة.  
وطالما ذكرنا الأزهر الشريف؛ فلابدّ من القول بأنه يقوم بإيفاد بعثات من خريجيه؛ للعمل في العديد من دول العالم لنشر الإسلام، وتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وتقوم هذه البعثات بدور كبير في تطوير المفهوم المحلي للإسلام، خصوصاً في القارة الإفريقية، والفصل بينه وبين العادات والتقاليد المحلية، التي يظنها السكان ـ في كثير من الأحيان ـ جزءًا من الدين.
إلا أن التعاون العربي قصير المدى ـ كعادتنا به ـ وفور وصولي، كانت الخلافات قد بدأت بين المدير العام السعودي ودعاة الأزهر الشريف؛ لأسباب اعتقدتها هامشية، فرجال الأزهر اعتادوا تنظيم شعائر صلاة الجمعة كما تجري الحال في مصر، بوجود تلاوة من أحد المقرئين لفترة، قبل رفع أذان الظهر، وهو ما اعتبره المدير العام بدعة؛ وقرر إلغاءها، كذلك رفض إلقاء موعظة قبل الخطبة، كما يتم في معظم مساجد «بامبوتوس»؛ مراعاة لجهل معظمهم اللغة العربية، وصعوبة قيامهم بتلاوة القرآن، ومجدداً اعتبر ذلك بدعة لابدَّ من إبطالها.
وحلاً للخلافات؛ طلب رئيس بعثة الأزهر الشريف إعفاءهم من العمل بالمركز الإسلامي (السعودي)، والاكتفاء بالعمل في المساجد  «البامبوتوسية»، إضافة إلى عملهم التقليدي في المدارس الحكومية والخاصة. 
وعلى الرغم من جهود السفير المصري ـ وقتها ـ للتوصل إلى تسوية؛ إلا أن الأمر استقر على اكتفاء مبعوثي الأزهر بتدريس اللغة العربية في المدرسة الابتدائية، الملحقة بالمركز، وامتناعهم عن العمل داخله، وما يتضمنه ذلك من إقامة الشعائر وإلقاء الدروس الدينية والمواعظ.
وعلى الرغم من الفتور ـ الذي أدى إليه هذا الخلاف ـ إلا أن أداء صلاة الجمعة في مسجد «تشينجا» ـ أو المركز السعودي، كما صار مبعوثو الأزهر يسمونه ـ كان حدثاً مهماً؛ بسبب نجاح الإدارة في تقديم خدمة مرتفعة الجودة للمصلين، واستقطاب المسلمين من كبار مسؤولي الدولة لأداء الصلاة فيه، ومن ثَمَّ تحولت الصفوف الثلاثة الأولى إلى أماكن مخصصة لعلية القوم، يتم منع بقية المصلين من الجلوس بينهم، حتى  من بكر بالحضور، وهو ما لم يعتبر بدعة!
وباعتباري رافضاً للبدع؛ اعتدت التخلي عن الصفوف الأمامية، والجلوس بين بقية المصلين، الذين غصَّ بهم المكان؛ لدرجة مازلت أذكر أنني فوجئت بها في زيارتي الأول؛ بسبب الانطباع الذي حملته ـ دوماً ـ عن كون «بامبوتوس» دولة لا يوجد فيها المسلمون بكثرة.
كانت المفارقة في «المركز السعودي»، أنه يحمل الاستثناء الوحيد بين كل دور العبادة، بأن يرأسه أجنبي، وأن يقود الصلوات فيه أجنبي، ونظراً إلى كون المدير العام السعودي لا يتحدث إلا «العربية»؛ فقد ابتدع طريقة فريدة في خطبة الجمعة، إذ يقوم بإلقائها باللغة العربية، وخلال جلسة الاستراحة يقوم أحد مساعديه بترجمة مجمل الخطبتين إلى الفرنسية؛ ليستفيد معظم الحضور، الذين يتحدثون الفرنسية، إضافة إلى لهجتهم المحلية.
بعد انقضاء الصلاة، تكون فرصة سانحة للالتقاء مع عدد من الأصدقاء، من السفارات العربية، وربما الاتفاق على دعوة للعشاء، أو مباراة لكرة القدم خلال العطلة الأسبوعية.
وحينما عدت إلى مكتبي؛ كانت السكرتيرة تبلغني بأن رئيس بعثة الأزهر الشريف، وسكرتير البعثة، موجودان، ويطلبان مقابلتي.
الشيخ عبدالعزيز عليش، رئيس البعثة، عالم فاضل، ينشرح الصدر لمجرد رؤيته، وحينما يتكلم تسكن محبته القلب، صورة مشرّفة لرجل الدين، أما إسماعيل فرج، سكرتير البعثة، الذي يتولى الشؤون المالية والإدارية فيصغره بعشر سنين على الأقل، موظف وإن كان من خريجي الأزهر بشهادة متوسطة.
بعد التحيات والسلامات المعتادة، بادرني الشيخ «عبدالعزيز» بالكلام، قائلاً:
ـ «... هناك موضوع حدث معنا، خلال جولتنا لتفقد أوضاع المبعوثين، وأردنا أن نقصه عليك؛ فربما يكون لديك تفسير له، فخلال رحلة العودة كان علينا ركوب الطائرة من أقصى الشمال؛ للتوجه إلى (أيوندو)، كان الجو خانقاً، والزحام شديداً، جاءت سيدة ـ يبدو عليها الثراء ـ بصحبة بعض عمال الشركة، وأرادوا أن يجعلوها في مقدمة الصف الذي ننتظر فيه، فلما اعترضت ثارت وهاجت وماجت، وقالت: إنها لن تقف خلف رعاة الأغنام هؤلاء»!
«... ذهب (إسماعيل) إليها، وحادثها بالإنجليزية، لكنها ردت بالفرنسية؛ على الرغم من أن صراخها كان بالإنجليزية التي نفهمها، وعبثاً حاول الكلام معها، حيث أشاحت بوجهها، وظلت تردد بعض الكلمات بالفرنسية، وقد كست وجهها علامات الاستياء...»!
«... في النهاية اصطحبها أحد موظفي المطار إلى قاعة خاصة، ثم قام بإنهاء الإجراءات لها، وقبل أن تغادر قالت بصوت عالٍ بالإنجليزية: تأكَّد من أني لن أجلس بجوار أحد هؤلاء خلال الرحلة، وإن كنت لا أعتقد أن أحدهم يمكنه السفر ضمن الدرجة الأولى...»!
تدخل «إسماعيل»، ووجهه يحمل أمارات الانزعاج، قائلاً:
     ـ لقد أمسكت أعصابي بصعوبة، ومنعت نفسي من اللحاق بها وصفعها، أو على الأقل جرها من شعرها لكنس أرضية المطار، لا أدري ماذا فعلنا لها؟ ولماذا كل هذه الكراهية؟!
تعجبت من القصة، وجال في خاطري ـ لوهلة ـ أنهما يبالغان بعض الشيء، أو أن ضعف لغتهما الإنجليزية أحدث نوعاً من سوء الفهم، أو أن هناك موقفاً سيئاً حدث من جانب أحد أفراد البعثة؛ أدى إلى رد الفعل السلبي منها.
كدت أوجه الحوار إلى اتجاه آخر، حينما استطرد الشيخ «عبدالعزيز»، قائلاً:
ـ لقد سمعت موظفي الشركة ينادونها أكثر من مرة بكلمة «سموك»، أنا اعرفها بالفرنسية، فهي ذائعة بين أمراء العشائر المسلمة هنا، فهل يعني ذلك أنها ملكة، أو ربما أميرة؟!
قلت في شرود:
ـ ملكة يقال لها: «جلالتك، «سموك» تستخدم مع أميرة!
رمقه «إسماعيل» بنظرة نارية، وهو يقول:
ـ نعم أميرة، كانوا ينادونها بسمو الأميرة!
قلت، وقد بدأت أتململ من الحديث:
ـ حتى صباح اليوم لم أكن أعلم أن في هذه الـبلاد أمـيرات، وها أنا أتعرف إلى اثنتين في يوم واحد.. يا لحظي السعيد!
انتهى الحديث، وغادر الرجلان مكتبي؛ فعدت لأنكبَّ على عملي؛ محاولاً أن أنتهي من أكبر قدر في أسرع وقت، فاليوم هو نهاية الأسبوع؛ ومن المفترض أن نرسل حقيبتنا الدبلوماسية ظهر الغد؛ لتلحق برحلة طائرة الخطوط الكينية، وباعتبار أن السفير في إجازة؛ فستكون عليَّ مراجعة جميع الخطوات والإجراءات، خصوصاً أن يوسف الباشا (مساعد الملحق الإداري، المكلف بهذه المهمة في الأساس)، يحتاج إلى عناية خاصة، ومساعدة مستمرة؛ ما يجعلني ـ في كثير من الأحيان ـ أفضل عدم إسناد أي مهام إليه، والقيام بها بنفسي؛ حرصاً على توفير الجهد والوقت، وكذلك منعي من الانفعال غير المجدي.
لكن نظراً لأنه يقترب بشدة من سن التقاعد ولابدَّ أنه قد حفظ واجباته؛ بسبب قيامه بتكرارها خلال السنوات الثلاثين الماضية؛ لذا ـ ونظراً إلى ارتباطي بمناسبة اجتماعية في المساء ـ قررت أن أجدد ثقتي بيوسف الباشا، مذكراً إياه بأنني سوف أمر في الصباح التالي؛ لأتفقد أداءه، ويطمئن قلبي إلى أن الحقيبة الدبلوماسية ـ المتوجهة إلى القاهرة ـ قد تم إعدادها.
وكعادته كرر يوسف سلسلة من العبارات المبهمة، التي يذكرني فيها بأنه «قديم»، ويعرف ما يجب فعله جيداً، ويحتاج مني ـ فقط ـ إلى  قليل من الثقة!
بدأت ألملم أوراقي وأستعد للمغادرة، وسولت لي نفسي محاولة تفقد بريدي الإلكتروني؛ من خلال الحاسب الوحيد المتصل بـ«الإنترنت» في البعثة، وعن طريق طلب الرقم dial up؛ لذا فقد اتصلت عشر مرات؛ حتى تلقيت استجابة من الحاسب (الخادم)، وبعدها فشلت مرتين في إدخال اسم المستخدم وكلمة المرور، وفي الثالثة تم قبولهما، وأخيراً رأيت بريد «ياهو» يرحب بي، وأعدت تحميل الصفحة خمس مرات؛ حتى استطعت معرفة أن هناك «واحد» رسالة/ رسائل في انتظاري.
صديقي اللدود «المغازي».. علاقة غريبة تربط بيننا، لا يمكنني أن أصفه بصديقي الودود، وليس لي بعدو لدود، غالباً ما كان يرد على تساؤلات أصدقائنا المشتركين، عن تعريفه لعلاقتي به، بقوله: إننا تماما كـ«حسين البنهاوي»، والصاغ «إبراهيم مكي» في رواية «أرزاق»([1]) ـ فك الله أسر جزئها الرابع ـ تلك العلاقة، التي وصفتها الأميرة عايدة ـ يوماً ـ بالقول لحسين: إن إبراهيم لا يريد أن يدمره، بل يريد فقط أن يسيطر عليه! وهذا هو ـ تقريباً ـ ما أريده أنا و«المغازي»! كل منا يعتقد أنه يجد في الآخر العدو العاقل، الذي هو خير من صديق أحمق! وباختصار فإنه ليس أقرب أصدقائي، ولا أعزُّهم لديَّ! لكنه من يدفعه القدر باستمرار؛ كي يكون إلى جواري.
«المغازي» ـ وهذا هو اسمه الأول ـ أعرفه منذ عشر سنوات، شكله مميز للغاية، فارع الطول، بالغ النحول، رأيته للمرة الأولى في المدرسة الثانوية، (إسماعيل القباني الثانوية)، في حدائق القبة، ولسنوات ثلاث، كنت ألمحه ـ دوماً ـ ولم نتحادث مطلقاً، حتى كان أول يوم لي في الجامعة؛ حينما وجدته أمامي في الصف نفسه، يومها تقدم نحوي، قائلاً: أحفاد «إسماعيل القباني» زينة الرجال.
وخلال أربع سنوات من الدراسة الجامعية، صارت هذه هي تحيتنا، لكن ـ غالباً ـ لم نكن نضيف إليها الكثير من الحديث.
بعد التخرج، اختفى «المغازي» من عالمي؛ حتى التحقت بالسلك الدبلوماسي، وعندما بدأت أتحسس مواطئ أقدامي؛ إذ بي أجده قد التحق به قبلي بعام، ومن وقتها صار مرجعي.
 حينما اقتربت منه أكثر؛ بدأت صورته لديَّ تختلف، كان ـ كما هو ـ طويلاً نحيفاً، إلا أنه يمتلك ثقلاً يثير الإعجاب، رابط الجأش، يتعامل مع ما ومن حوله بترفع عجيب؛ لذا كلما وجدت نفسي بحاجة إلى الاستعانة بصديق؛ كانت صورة «المغازي» تترآى أمامي.
كانت رسالة دورية من «المغازي»، يحكي لي ما يدور في جانبه من العالم، ويعلق على ما قصصته عليه في رسالتي الأخيرة، إننا نتبادل الرسائل أسبوعياً، إضافة إلى رسائل عاجلة في الأحداث المهمة.
قرأت باهتمام، واستغرقت في أسلوبه الشائق وتعليقاته الساخرة؛ حتى وصلت إلى توقيعه السخيف «عمك المخلص»؛ فأغلقت الجهاز، وعدت لأحادث «يوسف» من جديد؛ مستفسراً عن وجود أية وثائق، أو مكاتبات تحتاج إلى وضع ختم النسر عليها قبل انصرافي، فأجاب بالنفي، فأعدت سؤاله مذكراً بأنني لن أعود إليه؛ إذا ما تذكر حاجته إلى الختم، فكرر عباراته المبهمة عن كونه «قديماً»؛ لذا فقد رحلت أخيراً.   
                                                     *****



([1]) رواية «أرزاق»، رواية اجتماعية مسلسلة، للدكتور نبيل فاروق، صدرت منها ثلاثة أجزاء، واختفى الجزء الرابع، الذي كان يفترض صدوره عام 1996، وتحول إلى أسطورة في حد ذاته؛ بعد أن استمر الإعلان عن صدوره «قريباً» نحو خمسة عشر عاماً، الرواية رائعة وتمتد ـ في الجزء المنشور منها ـ منذ الأيام الأخيرة للملكية، وحتى حرب يونيو 1967، وقد دخل العديد من جملها الشهيرة إلى الثقافة الشعبية للشباب، خصوصاً الجملة المذكورة في الفقرة أعلاه، أبطال الرواية، هم: عائلة البنهاوي، بقيادة حسين الذي انضم إلى الضباط الأحرار بحيلة، وشقيقه مفيد، الذي يمثل عنصر التمرد على سيطرة شقيقه الأكبر، إضافة إلى الأميرة عايدة (إحدى أميرات أسرة محمد علي)، التي أغرم بها «حسين»، وساعدها على مغادرة مصر، لكنها خدعته ورفضت العودة، ما دفعه إلى إرسال رجل مخابرات لإعادتها، تارة بالحيلة وأخرى بالقوة، ويقول الخبثاء: إن إعلان تأميم القناة جاء للتغطية على اختطاف الأميرة عايدة في باريس!

No comments:

Post a Comment