Friday, January 23, 2015

#مصرع_أميرة الفصل الأول


الصلاة خير من النوم...
صوت أذان الفجر يأتي من بعيد، يشق الصمت...
يداعب النوم جفوني مداعبة ثقيلة للغاية؛ تجعل صوت الأذان يتباعد؛ خصوصاً أن الجامع الكبير يبعد كثيراً عن منزلي، وبطريقة من تعوَّد على هذه المداعبة الثقيلة؛ كنت أستجمع قواي، وأوجّه إلى النوم ضربة واحدة، نفذت من بين أستاره المتتالية، وعلى الفور اعتدلت في فراشي لثوانٍ، قبل أن أمشي الهوينى، متمنياً أن تضع نسمات الفجر «النادرة» نهاية لمداعبات النعاس.
عبقري من قال: إن أفضل نوم هو النوم بعد صلاة الفجر؛ إذ له لذة لا يمكن مقاومتها، لذلك بعد أن أنهيت الصلاة، وأذكار الصباح؛ كانت الساعة لم تتجاوز الخامسة والنصف، فكان هناك متسع من الوقت لساعة ـ أو يزيد ـ من النوم اللذيذ.
في السابعة.. كان ضوء الشمس يوقظني، من دون ساعة تنبيه كالعادة، لأنتهي من طقوسي الصباحية خلال ساعة، وأغادر منزلي متوجهاً إلى مقر عملي.
كان الصباح بارداً ـ كعادة أيام شهر يونيو ـ فهنا بالقرب من خط الاستواء تختلف الفصول عن المناطق البعيدة عن الخط الشهير، أبرد أشهر العام، هي: يونيو، ويوليو، وأغسطس، تلك التي توصف في بلادنا بقمة الحرارة، والرطوبة، والعرق، والإحساس الخانق بفصل الصيف.
درجة الحرارة 22 درجة تقريباً، لكنها تبدو للمواطنين درجتين أو ثلاثاً على الأقل؛ فالجميع يرتدون ثياباً ثقيلة للغاية، ويعتمرون أغطية رأس صوفية، وكوفيات تحيط بالأعناق، غريبة للغاية قدرتهم على تحمل الحرارة، وضعفهم الشديد تجاه غياب أشعة الشمس.
يوم جديد في «بامبوتوس».. مرحبا يا «أيوندو»..
أنطلق بسيارتي السوداء الصغيرة (يابانية الصنع)، وسط الشوارع شبه الخالية، فأهم ما يميز هذه المدينة الصغيرة عدم وجود اختناقات مرورية صباحية، فأشد ازدحام في «أيوندو» يعني تأخر ثلاث دقائق على الأكثر؛ ونتيجة لهذا لا توجد فقرة مرورية في برنامج «صباح الخير يا (بامبوتوس)»، ولا تقوم إذاعة «(بامبوتوس) إف إم» بالاتصال بالسيد العقيد مدير إدارة الإعلام بشرطة المرور؛ لتحذير قائدي السيارات من الاقتراب من ميدان كذا، أو كوبري كذا.
نعمة لا أدرك قيمتها؛ إلا عندما أعود إلى وطني الحبيب في إجازة!
مرحباً أيتها الطبيعة الخلابة...
جبال تكسوها الخضرة، ويكلل قممها الرباب الأبيض، مشهد بديع يسبح بحمد الخالق الباري، لكن التعود يجعله روتينياً، يَالي مِنْ كائن عجيب!!
أعيش ربع قرن أعجز عن معرفة لون السماء؛ بسبب التلوث والسحاب الأسود، وأعلى قمة رأيتها كانت برج البنك الأهلي، وحينما أشاهد هذه المناظر الخلابة؛ أملُّها كأنها تطالعني منذ طفولتي.
أقترب من مبنى السفارة؛ فيلمحني حارس الأمن المصري طارق عبدالعظيم، ويفتح البوابة الرئيسية، حتى قبل أن أستخدم آلة التنبيه، فأدلف على الفور، وأترك سيارتي في موضعها.
كالعادة أنا أول الواصلين؛ باعتبار الحراس يقيمون في غرف ملحقة بمبنى البعثة، إضافة إلى الطاهي، والعمال المحليين، الذين يصلون عند السابعة والنصف.
دعوني أقدم إليكم ـ بشكل سريع ـ أعضاء الفريق المصري:
ـ حسن عبدالصبور، رئيس البعثة الدبلوماسية، أو باختصار السفير، رجل بالغ التهذيب، شديد الاحترام والثقافة والتدين، وهو الآن يقضي عطلته السنوية، التي تمتد لشهر في مصر.
ـ كرم محمود، الملحق الإداري والمالي، شاب في أواخر العقد الرابع طويل، بدين، أصلع، وتلك لعمري صفات محببة للغاية في المجتمعات الإفريقية، التي اعتادت أن يكون زعيم القبيلة أكثر رجالها بدانة.
ـ يوسف الباشا، مساعد الملحق الإداري، كهل في منتصف الخمسينات، لكنه يبدو أصغر من سنه بكثير؛ ربما لروحه الشابة، وربما لصبغة الشعر الممتازة التي يستخدمها!
هناك أيضاً مكتب لبعثة الأزهر الشريف في «بامبوتوس»، يستخدمه رئيس البعثة، وسكرتيرها بين الحين والآخر، كما أن هناك مكتباً آخر للدكتور ياسر سعيد، الطبيب المصري، الذي يعمل استشارياً في أحد مستشفيات «أيوندو».
وقبل أن أنسى، هناك حارسا الأمن: «طارق»، الذي قابلتموه منذ قليل، وسعيد النبوي الذي لابدّ أنه يغط في نوم عميق الآن، وأيضاً «وجدي» طاهي السفارة، وجلال الفرجاني معاون الخدمة.
ها قد تعرفتم إلى الجميع، ولا يتبقي غير عاملين محليين: السائق «جاربا»، والنادلان «حامدو»، و«أتانجانا»، والسكرتيرة «سيلين».
دعوني الآن أتوجه إلى مكتبي؛ حتى يبدأ المرح.
ها هي السكرتيرة تتبعني بالبريد، فطوال عطلة السفير يحظى العبد ـ الفقير إلى الله ـ بلقب القائم بالأعمال بالإنابة، أي رئيس بعثة جمهورية مصر العربية في «بامبوتوس» بالإنابة.
سكرتيرتنا البائسة «سيلين»، قالت عنها أمي، حينما طالعت صورتها: إنها «تحتاج إلى حقنة حساء»؛ لذا فها هو عمود من أعمدة صورة الدبلوماسي التقليدية ينهار.. السكرتيرة!!
فعندما علم أصدقائي وجيراني بأني نجحت في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي؛ كان تعليق غالبيتهم هو:
«لماذا يابني، ألم تشاهد أفلاماً أو مسلسلات مطلقاً»؟!
هنا اكتشفت أن صورة الدبلوماسي ـ في خيالي ـ تتعارض تماماً مع  التصور الشعبي له؛ فعامة هو رجل من دون قيم، أو مبادئ، أو أخلاقيات، يستخدم منصبه لأهداف شخصية شريرة.
حتى أفلام ومسلسلات «الطرابيش» الشهيرة، يكون الدبلوماسي فيها أحد أفراد الأسرة المالكة، أو أحد المشاغبين، الذين يقرر الملك ـ أو الرئيس ـ التخلص منه؛ بإرساله إلى سفارة مصرية في أقاصي الأرض.
وبالبحث المتأني؛ عرفت أن أهم ملامح الدبلوماسي ـ من وجهة نظر الأفلام والمسلسلات، وبالتالي جمهور الشعب العريض، الذي يعد مصدر ثقافته الرئيسي التلفزيون ـ هو رجل متأنق للغاية، لا ينسى تغيير قداحته الذهبية وساعته الماسية، كي تتماشيا مع عشرات الحلل التي يمتلكها، وأزرار القمصان ومئات ربطات العنق التي تُهدى إليه من صديقاته المتعددات، اللاتي يبدأن من سكرتيرته الأجنبية الشقراء، ولا ينتهين عند وزيرة خارجية الدولة الأجنبية؛ حتى لو كانت عجوزاً شمطاء، ترتدي تنورة قصيرة.
ونظراً إلى انشغاله بهؤلاء الفاتنات؛ فلابدّ له أن ينسى زوجته، التي تضطر إلى شغل الفراغ العاطفي مع آخر أو آخرين، ويبقى الأولاد على طريق الانحراف الأكيد، فهم يشبّون على مرأى الحفلات التي تسيل فيها الخمور أنهاراً، وتنتهك فيها الحرمات، ومن شبَّ على شيء...
هذا هو الدبلوماسي في الخيال المصري.
لم يقدني البحث المتأني إلى صورة مضيئة واحدة، دبلوماسي واحد «يا مؤمنين» يعرف جادة الصواب!
لذا عندما كنت أحاول إقناع الجيران والأقارب والأصدقاء، كنت أحس بإحساس مَنْ يحرث البحر، مجهوداً وعناء، والنتيجة : صفر.
الغريب أن هذه الصورة الشعبية التصقت بعقلي الباطن، ووسوس إليَّ شيطاني بأنه قد أكون أنا الأحمق، وهؤلاء البشر هم من يملكون ناصية الصواب، فقلت: ولِمَ لا.. فلنجرب؟! ولنختبر تلك الفرضية بشكل علمي!!
ما أول اختبار؟
... السكرتيرة!
صحيح أنني لا أتوقع أن تكون السكرتيرة بيضاء، شقراء، زرقاء العينين، ممشوقة القوام، متخرجة في جامعات الجزر البريطانية، أو الولايات المتحدة الأمريكية، لكنْ من قال: إن الجنس الإفريقي لا يملك مميزاته، ربما تكون هناك تايرا بانكس، أو هالي بيري، أو حتى  أوبرا وينفري؛ عندما كانت شابة!
وكما أعلنت أولاً، أكتفي بوصف السكرتيرة بـ«البائسة»، لابدّ أن أمي تحظى بخبرة طبية، لا بأس بها؛ فقد لاحظت ـ من الصورة ـ أن السكرتيرة مريضة، وهو ما أكده عدد من الأطباء المصريين العاملين في «بامبوتوس»، إذ وصل عدد الأمراض ـ التي شكّوا في إصابتها بها ـ إلى أكثر من ستة أمراض، في مقدمتها ضعف التغذية؛ على الرغم من أن راتبها الشهري يبلغ ثلاثة أضعاف راتبي في مصر العزيزة.
وباعتبار أن الإنسان كائن سهلٌ اعتيادُه كلَّ ما يحيط به؛ فكما اعتدت الطبيعة الخلابة، اعتدت أيضاً المعاناة البشرية، التي أطالعها كل يوم؛ عندما أشاهد السكرتيرة.
ـ ماذا لدينا اليوم؟
فأشهر الصيف عموماً تحظى بقدر كبير من الهدوء؛ ففور انتهاء الامتحانات الدراسية؛ تبدأ إجازات الدبلوماسيين عادة، ويكون معدل الأداء أبطأ بكثير، سواء أكان داخل الوزارة في مصر، أم في «بامبوتوس».
لذا فكان سقف طموحاتي منخفضاً للغاية، ولنبدأ بالطلبات...
ـ طلب معونة؛ لتأسيس رابطة للاجئي إفريقيا الوسطى في «بامبوتوس»... عذراً!
ـ طلب أموال؛ للمشاركة في إنشاء مدرسة بقرية بمحافظة الشمال الأقصى... عذراً!
ـ خطاب من أهالي قرية أخرى، يطالبون ببقاء مبعوث الأزهر لديهم.. ولابدّ أنه استكتبهم هذا الخطاب!
ثم ننتقل إلى الدعوات..
ـ دعوة لحضور الجلسة الافتتاحية لمؤتمر دعم الإدارة اللامركزية، في وسط إفريقيا، المقام تحت رعاية رئيس الوزراء في قاعة المؤتمرات... سأحضر إن شاء الله!
ـ دعوة لحضور حفل تأبين شخص ما (لم أسمع عنه، والسكرتيرة كذلك)، بالتأكيد سأعتذر؛ خصوصاً أن الحفل يقام في قرية الفقيد، على بعد 1200 كم من العاصمة.
وكانت السكرتيرة تدوّن تعليقي ـ مع كل دعوة ـ في مفكرتها الصغيرة؛ لتضمين الموعد جدول الارتباطات، وهي تردد الجملة الوحيدة، التي غالباً ما تكررها بشكل آلي: نعم سيدي!
هكذا انتهينا من الدعوات والمناسبات!
قصة كل يوم... لا شيء جديداً!
وكأن السكرتيرة أحست بخيبة أملي؛ فمدت يدها ببطاقة دعوة، كانت تحتجزها بعيداً عن بقية الدعوات، كانت بطاقة بيضاء الغلاف، لا تحتوي أي شعار لدولة أو منظمة، كما جرت العادة، وعندما فتحتها كانت تحوي سطوراً قليلة:
«تتشرف الأميرة جان بونجاني كواجني، بدعوة السيد سفير جمهورية مصر العربية إلى حضور الحفل، الذي تقيمه في منزلها بضاحية سانتا باربرا؛ بمناسبة عيد ميلادها، وذلك يوم كذا في تمام الثامنة مساءً».
نحيت البطاقة جانباً، وأنا أخاطب السكرتيرة، قائلاً:
ـ أميرة؟! هل حدث انقلاب في البلاد، أطاح الجمهورية، وحوّل «بامبوتوس» إلى إمارة؟!
ابتسمت السكرتيرة؛ لتكشف عن صفّ من الأسنان التي لم تلمسها فرشاة، منذ نصف قرن أو يزيد، وقالت:
«كل من هبَّ ودبَّ، يمكن أن يحمل لقباً ملكياً في هذه البلاد، ويضفي على نفسه سمات نبل المحتد، وشرف الأصل، هناك مائة ملك وسلطان وألف أمير وأميرة، وكل مَنْ يولد لهم يحمل فوراً لقباً نبيلاً؛ كأنه ورثه مع الدم الأزرق عن أبويه»؟!
قلت بنفاد صبر:
ـ  يعني هي تنتحل لقب أميرة، ألا توجد جهة تمنع هذا؟!
قالت، وهي تحتفظ بابتسامتها:
ـ هذه الألقاب لا تمنح صاحبها حقاً، ولا تعفيه من واجب، والناس تحبها، والحكومة لا تعترض على طريقة «إنهم يعطون أنفسهم ألقاباً.. دعهم يحملونها».
قلت ـ وأنا أعقد حاجبيَّ ـ متصنعاً الجدية على طريقة أبطال روايات د.نبيل فاروق:
ـ ومن «جان» هذه؟!
عقدت حاجبيها بدورها، وقالت متصنعة سرية المعلومات:
  ـ سيدة أعمال من مدينة أداماوا، غرب البلاد، معروفة بثرائها الواسع، وعلاقاتها الأوسع مع الطبقات العليا في هذه البلاد.
درت بمقعدي؛ لأواجه النافذة، وأراقب تجمّع السحب، الذي ينذر بقرب هطول المطر، قبل أن أقول:
ـ ولماذا تدعو السفير إلى حفل عيد ميلادها؟! لم أسمعه مرة يتكلم عنها!
قالت، وهي تزيد من نبرة الخطورة في صوتها:
ـ إنها تحرص على توجيه الدعوة إلى السفراء كافة، وتسعى دوماً إلى التقرب منهم، وسفيرنا منهم، وإن كان لم يلبِّ دعوة واحدة لها منذ أتى، أي لأكثر من عامين، إلا أنها لم تيأس بَعْدُ.
قلت، وأنا لا أزال أراقب السحب:
ـ هل من المعهود، هنا، إقامة حفلات لأعياد الميلاد، يُدعى إليها السفراء؟!
أجابت، وقد سرتها فطنتي:
ـ نحن عموماً، لا نحتفل بأعياد الميلاد، لكنها تقوم بذلك.
وسكتت لثوانٍ، قبل أن تضيف:
ـ بالمناسبة هذا ليس أول عيد ميلاد لها هذا العام، ربما الثاني أو الثالث!
ابتسمت مرغماً، وأنا أغمغم:
ـ على طريقة نجمة مصر الأولى، ونجمة الجماهير، وفتى الشاشة الفضية، عيد ميلاد، كلما قلَّت أخباري في الجرائد.
قالت:
ـ ماذا أفعل بالدعوة؟!
قلت:

ـ إن موعدها سيحين بعد عودة السفير؛ فلنتركها له.

No comments:

Post a Comment