Monday, December 23, 2013

سندباد مصري

أحكي لكم اليوم عن واحد من أعجب الشخصيات التي مررت بها علي الاطلاق
أعود بكم إلي الأجواء الأفريقية المحببة إلي نفسي، لنذهب إلي حيث توجد نسخة شابة مني، كانت الشمس ساطعة في كبد السماء ، وأنا غارق في الأعباء ، عندما دق جرس الهاتف لأجد حارس الأمن يحمل لي كالعادة هدية جديدة !!!
 هناك مصري يرغب في مقابلتي  !!!
هناك خمسة مصريين تقريبا يتواجدون في هذه المدينة وكلهم يعرفون رقم هاتفي
لا بد أنه غريب
وباعتبار المواطن المصري الكادح ... هو من يدفع لي راتبي ...فلابد أن أقابله في أي وقت جاء... وفي أي ساعة حل.
عندمادخل إلي مكتبي لم أدرك للوهلة الأولي كيف يكون مصرياً ؟
فلقد رأيت رجلا يبدو في أواخر الخمسينات، يرتدي ملابس رثة  ، متوسط الطول ، أصلع الرأس إلا من بعض الذوائب في مؤخرتها   يطيلها لتصل إلي عنقه ، تحولت بشرته إلي لون برونزي عجيب كأنه يقضي طول يومه علي الشواطئ وتحت الشمس الحارقة. ومثار العجب أن عينيه الغائرتين  وبشرته ذات اللون الفريد وشعره الفضي الطويل يجعلانه اقرب لبحاري شمال المتوسط ، أو سكان أمريكا اللاتينية ، من الممكن أن يكون مواطناً مكسيكياً بدون شك.
 رحبت به فجلس قبالتي وهو يقول :
-      اسمي"...." طاهي مصري أعمل في أفريقيا منذ عشرين عاما او يزيد ، أتيت إلي هنامن الجابون حتى احصل علي تأشيرة دخول إلي غينيا الاستوائية حيث سأعمل مع فرع المقاولين العرب هناك ، ارغب في الحصول علي مذكرة من السفارة لسفارة غينيا الاستوائية لمنحي التأشيرة ، لأن سفارة غينيا الاستوائية في الجابون قد أغلقت "
 وأراني مذكرة من السفارة المصرية في الجابون بنفس المعني ، ولما كان التيار الكهربي مقطوعاً - أمر طبيعي جداً ودائم الحدوث -طلبت منه أن يعود في الغد للحصول علي المذكرة.
نسيت الموضوع لفترة قبل أن يرن الهاتف مره أخري لأجد مدير فرع المقاولون العرب في غينيا الاستوائية ، تحدثنا لفترة قبل أن أسأله عن موضوع الطاهي الذي سيعمل لديهم ،فاندهش وذكر انه ليس لديه أي فكره عن الموضوع ، ومن ثم قال دعني اتحري الامر واتصل بك مجددا
بعدربع ساعة  كان  يتصل من جديد ويقول:
-      لاتمنحه أي مساعده  نحن لا نريده انه قادم بناء علي مبادرة شخصية ، لقد سبق وان اشترينا منه مخبزاً كان يملكه في بنين  ومن ثم اعتبر نفسه شريكاً لنا ويتتبع فروعنا في أفريقيا وسبب لنا العديد من المشاكل في بنين وموريتانيا ، لذا نحن لا نريده في مالابو  .
 شكرته وأبلغت السكرتيرة أن تلغي المذكرة
وانتظرت أن يأتيني
وحينما جاء تلقي الخبر بهدوء شديد كأنه كان يتوقعه ، وعلي الفور فاجأني بمبادرة جديدة :
-"أريد أن تجمعوا لي تبرعات من المصريين هنا لشراء تذكرة سفر لمصر"
طبعا كان هذا حلماً فتذكرة السفر تصل إلي 1400 دولار ، والمصريون هنا يعدون علي أصابع اليد الواحدة  وأنا واثق أنهم لن يدفعوا مليماً واحداً له . وحينما اعتذرت قال:
-إذا اجمعوا لي 600 دولار وسأعود بالطريق البري !
سأركب القطار حتى تشاد
 ومن تشاد بالسيارة الي ليبيا
ومن ليبيا الي مرسي مطروح .
 أعدت النظر للطاهي الذي تجاوز الخامسة والستين والبساطة التي يتحدث بها عن رحلة في أدغال وصحاري أفريقيا  تمتد لأكثر من خمسة آلاف كيلومتر ، وكأنها رحلة إلي القناطر الخيرية .
 اعتذرت من جديد  وقلت أن الوسيلة الوحيدة هي أن نقوم بترحيله علي نفقة الدولة  ومن ثم يمكن له سداد التكاليف عندما يعود لمصر . فرد بأنه يعرف الترحيل جيدا وانه لن يرضي به .
 قلت : ليس لدي حل اخر .
 فقال : ان نقودي قاربت علي النفاد ولا يرغب في العودة مرحلاً وسيبحث عن عمل.
 تمنيت له التوفيق وتركته يرحل.
اختفي الرجل ونسيت أمره تماما ربما لأسبوع قبل أن المحه يوما بعد صلاة الظهر في المسجد متوجها إلي إدارة المسجد ومعه فتاة/سيدة محلية ولما كنت متعجل المغادرة لم أهتم بمتابعته أو السؤال عنه ومر يومان آخران قبل أن يأتي يوم اللقاء التالي ، فبعد صلاة الظهر مرة أخري خرجت من المسجد لأجده واقفاً في انتظاري ...
 قال : لقد ذهبت للسفارة لأقابلك فلم أجدك
 قلت: طبيعي فاليوم عطلة
 قال : جيد لقد رغبت في أن أبلغك خبراً مهماً
 بدأت في التفكير العاجل والسريع ..
 ما هو الخبر المهم الذي لا يمكن تأجيله حتى نهاية العطلة ؟
وهل سيكون له علاقة به شخصياً
 أو بقرار حاسم اتخذه
 أو تطورات دراماتيكية وقعت علي الساحة المحلية ؟
 قاطع استرسال أفكاري صوته وهو يقول :
"لقد تزوجت ...!!! "
هنا استرجعت مشهده هو ، والفتاه/ السيدة،  وبدأت أفكاري تأخذ منحا جديداً ،
قاطع استرسال أفكاري من جديد وهو يقول:
-      لقدتعرفت بفتاة محترمة  وقفت إلي جواري وساعدتني ، وأقنعتها باعتناق الإسلام وجئنا إلي المركز كي تشهر إسلامها ،ومن ثم عقدنا القران "
 لم أجد ما أقول تعليقا علي هذه الأخبار السعيدة سوى الجملة التقليدية "مبارك عليكما" ..
وقبل أن استطرد بالسؤال عن سبب رغبته الشديدة في إطلاعي علي النبأ المهم بدون انتظار ،كان يقاطع استطرادي ويقول:
-      "لقدرغبت في الحضور إليك كي أبلغك أني موافق علي الترحيل ... ارغب في أن تعيدوني لمصر أنا وأسرتي !!!"
كنت أتحسب هذا الطلب  ومن ثم قررت أن انهي المقابلة فقلت:
-       يمكنك أن تأتي للسفارة غدا وسوف نري ما يمكن لنا فعله
 لم يرق له ردي  وطفحت علي وجهه علامات التبرم  لكنه لم يجد بدا من الاستسلام لقراري  وقال " غدا نلتقي"

  في عصر هذا اليوم خرجت للتريض مع صديق من السفارة السعودية ، وكالعادة ظللنا نتجاذب إطراف الحديث
 الذي قادنا إلي قصة الطاهي فرويتها له ، فابدي استغرابه من التصرفات الغير متوقعة  من رجل في العقد السابع من العمر ، ومن قدرته علي إدهاش الآخرين .
 في اليوم التالي وفي تمام العاشرة  كان الهاتف يدق من جديد حاملاً صوت حارس الأمن الذي أصبح كجرس الإنذار بالنسبة لي معلنا وصول الطاهي وبصحبته زوجته ... العروس... كانت العروس في الرابعة والعشرين من عمرها
 أي أن العريس يكبرها بواحد وأربعين عاماً !!!
سألته عن طلباته علي طريقة المقاهي الشعبية فكرر طلبه قيام السفارة بترحيله هو وأسرته ،ولما استعلمت عن معني كلمة أسرته قال زوجته،  وهنا تدخلت لاسأل العروس عما إذا كانت قد سبق لها الزواج فقالت لا . وهنا كان لا بد أن اسأل سؤالاً اضافياً فقلت:  هل لديها أطفال؟
فاجابت:  نعم لدي ابن !!
كان هذا سؤالاً ضرورياً في مجتمع تنتشر فيه ظاهرة الأبناء غير الشرعيين .
هنا التفت للطاهي وقلت :-      الآن تريد أن نقوم بترحيلك أنت وأسرتك .. العروس وابنها أيضا.. ؟!!
فرد بكل ثقة :-      لو كان هذا ممكناً .
تمالكت أعصابي وأنا أقول:-      التعليمات التي لدي تقضي بترحيل المواطنين المصريين فقط علي حساب الدولة ،
 لذا فان زوجتك وابنها ليس لديهم الحق في الترحيل
هنا اكتسي وجهه بغيمة من الحزن وهو يقول: وهل ستفرقون شمل أسرتي بهذه البساطة"
اكتسي وجهي أنا هذه المرة بغيمة من الغيظ أمطرت في صورة كلمات تساقطت كالسيول :
-      أسرتك...أي أسرة هذه يا رجل !!!  هلا اكتفينا بهذاالقدر من النقاش !! هناك عرض واحد لدي اقبله أو ارفضه...
يتم ترحيلك وحدك أو تبقي مع أسرتك الجديدة.
-      لا..اذهب لحال سبيلي ...
-      مع أطيب تمنياتي بالتوفيق لك ولأسرتك.
عصر ذلك اليوم خرجت للتريض مع نفس الصديق السعودي ، والذي بادرني بالقول فور ما التقينا :
-      لقد زارنا اليوم شخص مصري ، احذر من ؟
-      لاتقل لي أنه الطاهي
-      هو بعينه
-      وماذا أراد ؟
-      يطلب معونة لزوجته باعتبارها من المهتدين الجدد
-      وماذا قلت ؟
-      كالعادة أن السفارة غير مكلفة بهذا الموضوع وان المركز الإسلامي هو المختص
-      وهل ذهب إليهم ؟
-      بمجردأن غادر السفارة ذهب إلي المركز . لكن آماله تبددت عندما أخبروه أنهم لا يقدمون أموالاً ، بل يساعدون في الحصول علي عمل ، ومن ثم فقد غادروا المكان
-      هكذا ببساطة.
-      بمنتهي البساطة.
 وكما ظهر الطاهي فجأة اختفي فجأة وانقطعت أخباره ،
 تاركاً خلفه أحجية لها حل من ثلاثة :

1.   قرر الاستقرار وبدء حياه جديدة مع أسرته الصغيرة
2.   قرر العودة لمصربالطريق البري مع أسرته الصغيرة
3.   طلق زوجته بعد فشله في السفر معها إلي مصر حسب الاتفاق

No comments:

Post a Comment